هويات للبيع… وكاتبٌ بلا هوية

وكالة الصحافة العراقية17 مايو 2025Last Update :
وكالة الصحافة العراقية


بقلم: طه خضير الربيعي

وكالة الصحافة العراقية /كربلاء
في لحظة نادرة من الصفاء، وجدت نفسي هذا الصباح محاطًا بسعادة غير مألوفة، سعادة لم أعرف لها سببًا، لكنها كانت حقيقية، تسري في الروح كما النسيم في فجر ربيعي. غير أن هذه البهجة لم تطل، إذ سرعان ما انطفأت مع حلول المساء، حين زارني رجل في مكتبتي الصغيرة، يبحث بين رفوف الكتب عن عنوان محدد.
الرجل، وقد بدا ودودًا في حديثه، قدم نفسه باسمه الكامل واختصره بحروف (م.ع.ن). ومع مضي الحديث بيننا، كشف لي عن حمله لعدد من الهويات التي لا يحملها عادة إلا من تمرّس في عالم الحرف والعدسة، فهو ـ بحسب كلامه ـ عضو في نقابة الصحفيين العراقيين، واتحاد الصحفيين، واتحاد المترجمين، واتحاد الناشرين، فضلاً عن كونه منتسبًا لاتحاد المصورين أيضًا.
توقفت متأملاً… هذا الكم من الانتماءات المؤسسية يوحي بأنني أقف أمام شخصية ثقافية فذة، أو على الأقل أمام رجل صاحب باع طويل في الإعلام والثقافة. غير أن المفاجأة كانت صادمة: لم يُجِد الرجل القراءة والكتابة، ولم يحصل في حياته على شهادة دراسية، بل يعمل في (جنبر) لبيع الملابس النسائية في شارع الجمهورية.
والأعجب من ذلك، أنه استطاع ـ بفضل هذه (الهويات) ـ أن يحصل على قطعة أرض وعدد من المنح والدعم، بينما نحن، الذين أفنينا أعمارنا بين دفات الكتب وصفحات الصحف، لم نُمنح سوى الإهمال والنسيان.
أنا شخصيًا، وبعد أكثر من نصف قرن من العطاء في مجالي الكتابة والبحث، أملك في رصيدي أكثر من أربعين كتابًا مطبوعًا، وعددًا مماثلًا من المخطوطات، إلى جانب عشرات المقالات المنشورة في الصحف المحلية والعربية. ومع ذلك، لم أحصل إلا على هوية واحدة: هوية نقابة الصحفيين العراقيين، والتي سُحبت مني لاحقًا بقرار (ترقين قيد) لا أعرف أسبابه حتى الآن. وعندما حاولت استعادتها، اصطدمت بممارسات غير أخلاقية من بعض سماسرة النقابة، الذين طلبوا مني دفع مبلغ مالي مقابل إعادتها.
ولأنني لا أعرف طريق التزلف، ولا أرغب في خوض لعبة الصفقات، فضّلت البقاء خارج هذه الدائرة، حتى لو كنت الكاتب الذي لا يملك(هوية).
ما جرى معي ليس حالة فردية، بل صورة مصغّرة عن الواقع المؤلم الذي يعيشه كثير من المثقفين والكُتّاب في هذا البلد. واقع اختلطت فيه القيم، وأصبحت الهويات تُمنح لمن لا علاقة لهم بالمهنة، بينما يُقصى أصحاب الكلمة الصادقة والفكر المستنير.
ربما آن الأوان لنطرح سؤالاً جادًا: لمن تُمنح الهويات الصحفية والثقافية؟ وهل أصبحت مجرد أوراق تباع وتشترى في سوق المصالح؟
أخشى أن الجواب معروف… لكن لا أحد يجرؤ على النطق به

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

أخبار عاجلة